تحقيقات

ماذا يحدث في “مخيم الهول” في الحسكة: أربعة تحقيقات مميزة-

————————————

معتقل الهول وقصة ولادة “الجيل الخامس”/ حازم الأمين

العالم يؤسس في مخيم الهول لولادة المسخ، أي جيل ما بعد “داعش”، وهو ما سبق أن سمّاه ربيع سويدان “الجيل الخامس”، وإذا كنا في حينها أمام احتماله، فها نحن اليوم أمام حقيقته.

عندما يُحشر نحو 40 ألف طفل في مخيم أقرب إلى معتقل، وفي أسوأ ظروف صحية وحياتية يمكن أن يتخيلها المرء، ومن دون تعليم، وتشرف على تنشئتهم أمهات كانت كثيرات منهن عضوات في هيئة الحسبة (التنظيم النسائي لداعش)، ومعظم هؤلاء الصغار فقدوا آباءهم في الحرب أو في السجون، فما المستقبل الذي ينتظر هذه الكتلة البشرية التي يختلط فيها الجلاد بالضحية، وتضيع معها معايير العدالة والحقوق؟

لقد صار مملاً أن نكرر حقيقة أن مخيم الهول في شمال شرقي سوريا هو مؤشر الانفجار المقبل، الذي ينتظر فرصة. العالم كله مشارك في هذه الجريمة، والعالم كله جزء من عملية التنشئة في تلك المساحة الصحراوية الشديدة الحر والشديدة البرد.

سنكون حيال مسخ جديد لا محالة، هو نسخة مطورة عن سلفه “داعش”. كل عناصر الولادة متوفرة. اختناق سياسي وديني وطائفي، وأجيال تنمو على وقع مأساة الأهل، وصحراء وكثبان وعشائر، وزنار هائل من السجون التي يقيم فيها الآباء، يحرسها مقاتلون كرد محاصرون بدورهم باحتمالات غزو تركي، ويلوح لهم التحالف الغربي بقرب تخليه عنهم.

لسنا هنا حيال مشاهد من فيلم هوليوودي، فما يحصل في معتقل الهول وفي محيطه مذهل، والمذهل أكثر أن العالم منساق لهذا القدر الحتمي، لا يحرك ساكناً، لا بل يمعن في تحويل المأساة إلى قدر. يقول الصليب الأحمر إن الهول هو أعقد مهمة خاضها، مذ باشر مهماته الإغاثية في كل بقع المآسي في العالم. والهول ليس مأساة سورية، على رغم أنها تدور في جغرافيا ذلك البلد. في المخيم بشر من ستين بلداً، السوريون نصفهم تقريباً يليهم العراقيون، وعدد لا بأس به من التونسيين والفرنسيين، وصولاً إلى جزر القمر. ليسوا ناجين ولا أبرياء ولا مرتكبين، فالبريء هو ابن لمرتكب، والناجي هو امتداد لقتيل، والمرتكب كان سبق أن دفعت به دولته إلى مصيره.

قيل لنا مؤخراً أن تعليمات وصلت إلى نسوة الحسبة من أرامل التنظيم بضرورة الزواج مجدداً من فتية صاروا مراهقين مع تقادم وجودهم، بهدف مد التنظيم بولادات جديدة في ظل عدم وجود رجال في المخيم!

يشيح العالم بوجهه عن هذه المصائر المعقدة. الدول لا تريد أن تسترد مواطنيها، فهم إذ غادروها شعرت بأنها تخففت من أعبائهم ودفعت بهم إلى سوريا، وقبلها إلى العراق. في تونس، يقول لك تونسيون ممن تلتقيهم في مقاهي العاصمة: “لا نريدهم ولا نريد أبناءهم”، وفي فرنسا طلبت الحكومة محاكمتهم في سوريا، البلد الذي ارتكبوا فيه جرائمهم! وفي لبنان يجري سماسرة الفساد صفقات مع أهلهم يتقاضون عبرها ما أتيح لهم ابتزازه.

وفي مواجهة هذه البلادة وهذا الكذب، بإمكان المرء أن يرفع منسوب الإدانة واستعادة وقائع “الرحلات الجهادية” التي شهدناها طوال العقد الفائت. ذهب التونسيون إلى “الجهاد” في سوريا وفي العراق بتسهيل وصمت من حكومة “النهضة” حينها. حصل ذلك تحت أنظارنا نحن الذين كنا نركب الطائرات المتوجهة من تونس إلى إسطنبول. وحين تقاطر “المجاهدون الفرنسيون” ونظراؤهم الأوروبيون إلى الشرق للالتحاق بـ”داعش” شعرت الدول التي غادروها أنها تتخفف من أعبائهم، ولم تعترض طريقهم. لا نكشف سراً حين نقول ذلك، فثمة وقائع موثقة تثبت هذه الحقيقة. في لبنان قال مسؤول أمني لكاتب هذه السطور في حينها أنه أفرج عن عدد من المتشددين لأنه يعرف مسبقاً أنهم سيغادرون إلى سوريا فور خروجهم من السجن.

استعادة هذه الوقائع يهدف للقول إن المأساة لم تولد في جغرافيا “دولة الخلافة”، وأن المسؤولية لا تقتصر على خيارات الآباء، هذا قبل أن نسأل عن الأخلاق والعدالة من وراء معاقبة هذا العدد الهائل من الأطفال، وزجهم في معتقل وفي أسوأ ظروف العيش. هذا العدد الهائل من الضحايا يفوق ربما عدد ضحايا المآسي التي يشهدها الكوكب. الحرب في أوكرانيا لا توازي شيئاً على صعيد أرقام الضحايا، والكارثة في لبنان لا يمكن قياس تبعاتها بما يمكن أن تجره مأساة معتقل الهول من احتمالات.

نحو 60 ألف سجينة وسجين طفل محشورين في معتقل هائل، هم ثمرة تجربة مريرة مر بها العالم واسمها “داعش”. وكما أن “داعش” هو ابننا وابن أنظمة الاستبداد وابن “البعث” وسليل السلفية الخليجية، هو أيضاً ابن تواطؤ الغرب مع هذه الأنظمة، وابن اختلالات جوهرية في البنى الاجتماعية الغربية. القول بأنهم هناك في الهول “في مكانهم الطبيعي”، وتجب محاكمتهم هناك ينطوي على ظلامة كبرى! بعضهم في مكانه الطبيعي، وبعضهم أرسلته دوله، فيما تواصل كثيرات بناء الخلايا، وبعضهن ضحايا أزواج وآباء وأشقاء، والأكيد أن سوريا هي آخر من يجب أن يتحمل تبعات هذا الحمل الثقيل.

ممنوع علينا نحن الصحافيين أن ندخل إلى معتقل الهول. فالمخيم سر يجب كتمانه، والوقائع في داخله تتواتر إلينا غير موثقة لكنها قابلة لأن تُصدق. قيل لنا مؤخراً أن تعليمات وصلت إلى نسوة الحسبة من أرامل التنظيم بضرورة الزواج مجدداً من فتية صاروا مراهقين مع تقادم وجودهم، بهدف مد التنظيم بولادات جديدة في ظل عدم وجود رجال في المخيم! الخبر غير الموثق، ممكن، على رغم ما يحمله من فداحة! المخيم مصدر لما لا يحصى من احتمالات. أما ما لا يحتمل الشك فهو أن العالم يؤسس هناك لولادة المسخ، أي جيل ما بعد “داعش”، وهو ما سبق أن سمّاه ربيع سويدان “الجيل الخامس”، وإذا كنا في حينها أمام احتماله، فها نحن اليوم أمام حقيقته، ويبقى أن يتوفر الشرط السياسي لانبعاثه خارج الهول، والمنطقة بطن ولادة لهذا النوع من الشروط. 

https://www.youtube.com/channel/UC4v5i5WG5AfomlsH-PWgQNw

————————–

“مخيم الهول”: من الأميرة خاتون إلى مجزرة الأرمن/ أحمد جاسم الحسين

ما دام ملف مخيم الهول قابلاً للاستثمار، باعتبار أن من يعيشون فيه يشكلون “بعبعاً” للآخرين، يمكن إطلاقه في لحظة ما من قمقمه.

تشهد منطقة الجزيرة السورية وأقصى الفرات حالة من السيولة والتحول منذ أكثر من قرن ونصف القرن، وربما جاء تأسيس مخيم الهول الذي يضم عائلات تنظيم “داعش”، ليكون جزءاً مما اعتادت عليه من تحولات. إذ تشير معلومات تاريخية إلى أن الصراعات بين القبائل العربية المنتشرة هناك كانت كبيرة، بخاصة ما حدث في عهد إبراهيم باشا والعشائر التي رافقته من حمص إلى الفرات بعد مجيئه من مصر، والصراعات بين قبائل “العقيدات” و”الجبور” في القرن التاسع عشر، وكذلك بين “العقيدات” و”شمر” التي شهدت معارك عدة كان آخرها عام 1982، برغم أن الجذر القبلي واحد، وهو الجذر “الزبيدي” وصولاً إلى القحطانيين.

أما على صعيد العلاقة بين الكرد والعرب؛ فإن معلومات تاريخية تشير إلى أنّ قسماً كبيراً من الكرد السوريين نزحوا من تركيا بسبب أحداث تاريخية وثقها مختصون في مطلع القرن العشرين.

مخيم الهول

 قبل أكثر من مئة عام كانت تلك الجغرافيا المجاورة للهول، موئلاً لجزء من الشعب الأرمني، الذي هجَّرته الدولة العثمانية إلى تلك الصحارى في ما يشبه إرساله إلى الموت البطيء لأسباب عرقية ودينية، وقد حاول الأرمن الهاربون النجاة من الموت عامي 1915 و1916، إلى أن لحقهم الجنود الأتراك، بخاصة المتطوعون في فصيل “الخيالة الحميدية” في موقعة “مركدة ” الشهيرة، وقضوا على آخر قوافلهم، وكان الوالي العثماني سعاد بك قد تعهد بحمايتهم، لكن رغبة الإمبراطورية العميقة بالتخلص منهم وإبعادهم من الدولة، وإن كان عبر النفي، كانت أقوى من الجانب الإنساني، فهرب من هرب، أما من “رقد من الأرمن” وقتل، فقد سمي المكان باسمه (مركدة).

 أقام الأرمن لاحقاً هناك كنيسة، ويأتون كل عام لزيارة الأضرحة تخليداً لذكرى تلك المذبحة التي ذهب ضحيتها المئات. كما أنشأوا مستشفى في مركدة، تقديراً لأهالي عشائر تلك المنطقة، الذين هرَّبوا عدداً من الأطفال الأرمن، مدعين أنهم أولادهم، كي لا يُقتلوا، وقد وصل عدد من الأطفال والنساء إلى دير الزور وعشائر العكيدات،  وصاروا جزءاً منها، وقد كان لي جيران وزملاء في المدارس التي درست فيها، ورفاق من الجيل الثاني والثالث من الناجين من مذابح الأرمن، وقد ذاب معظم أولئك في المجتمع العشائري كونهم أتوا إلى المكان أطفالاً.

في حالة مخيم الهول اليوم يبدو أن التاريخ يعيد نفسه، إذ تغدو تلك البقعة الجغرافية معسكراً لمن بقي من “داعش”، المفارقة اللافتة أن الأرمن كانوا ضحايا هاربين من الموت الذي يلاحقهم، أما من بقي من “داعش” فهم في منطقة رمادية ما بين أقارب القاتل، والضحية، لأن الرجال المحاربين من التنظيم يقطنون في السجون التي تديرها “قسد”، وما سكان مخيم الهول الذين يحسبون على “داعش”، إلا ضحايا من الأطفال والنساء.

كانت جغرافيا الجزيرة السورية منفى بالنسبة إلى أبناء المدن الكبرى، وكانت أقسى العقوبات بحق موظف سوري منذ 70 عاماً هي نقله من دمشق إليها، بعدما تحولت الجزيرة من قضاء إلى محافظة عام 1952. وقد كرست الحكومات المتتالية صورة أن تلك الجغرافيا منفى، على رغم أنها لاحقاً صارت منبعاً للنفط السوري ومصدراً للقمح، لكن ذلك لم يشفع لها، فقد بقي تهميش الدولة لها مرتكزاً على محاربة الشخصية الكردية، وتسليم إدارتها للأمن، وتأخير التنمية فيها، ومنع تأسيس الجامعات حتى القرن الحادي والعشرين، ووضعها في حسابات الولاء للعراق، وصدام حسين شخصياً، من أجل إبقاء النعرات بين القبائل العربية والكرد.

من جهة أخرى، أدت حالة الجفاف التي ضربت منطقة الخابور بين الحسكة ودير الزور، (بطول نحو 200 كيلومتر)، في تسعينات القرن الماضي إلى نزوح الآلاف إلى دمشق وحلب والساحل، لكنهم لم يفكروا بالنزوح إلى القامشلي مثلاً، فالمدن الكبرى هي التي يمكن أن توجِد فرص عمل، لا المدن الصغرى، إضافة إلى أن تلك المناطق كانت زراعية، وأفقد دخول المكننة غير المخطط له كثيرين فرص عملهم، دون أن تضع الدولة أي خطط بديلة، من دون أن تفوتنا الإشارة إلى أنَّ منطقة القامشلي، تحديداً “خط العشرة” المحاذي للحدود التركية- السورية، قد اكتفت من نزوح “العرب” إليها نتيجة الغمر الذي أحدثه إنشاء سد الفرات، وتكوين بحيرة خلفه غمرت آلاف الدونمات ودفنت عشرات القرى، ما جعل الدولة تبحث عن حل تبين أنه أحدث مشكلة جديدة، وأوقع ضحايا جدداً من الضيوف والمستضيفين.

لا يمكن فهم تلك الصراعات في تلك الجغرافيا حالياً وماضياً، دون سياقها التاريخي، ومفهوم الدولة والإمبراطورية والحدود والخلافة والسلطة العثمانية، والبعد الاقتصادي ودوره في تنقل القبائل والأقوام، وليست فكرة الأقدمية أو التنقل والجذور معياراً لتحصيل الحقوق، أو سلبها من السكان. ويمكن أن نقارن هذه الفكرة مع ما يحصل عليه اللاجئ السوري في هولندا مثلاً، منذ لحظة وصوله، إذ يتمّ تخصيصه برقم وطني، كأنه من بناة هذا البلد، ويحمل جنسيته أباً عن جد على صعيد الحقوق الواجبات.

وفي الوقت نفسه لم يعد من المجدي أن يقول الكرد لأبناء القبائل العربية التي تعيش منذ مئات السنين في الجزيرة السورية: إنكم جئتم من الجزيرة العربية وهذه الأرض أرضنا التاريخية. أما تسمية قرى الغمر بالمستوطنات العربية فهي إساءة للضحايا الذين غمرت أراضيهم مياه بحيرة سد الفرات التي استفاد من كهربائها وأثرها في تنمية سوريا، كل السوريين.

مالكو أرض المخيم والأميرة خاتون

ينظر أبناء “قبيلة الخواتنة” ملاك أرض مخيم الهول، نظرة انثروبولوجية إلى ما يحدث في أرضهم، فقد سبق أن قبلتْ هذه البقعة الجغرافية التنوع الإثني. بل إن هذه الأرض قبلت تغيراً أهم، فقد نُسِبَتْ قبيلة الخواتنة إلى الأميرة خاتون كما تقول عدد من الروايات، وأتمت إدارة شؤون العشيرة، بعد وفاة زوجها، في مجتمع ذكوري لا يقبل عادة بأن تقود المرأة العشيرة، وقد اشتهرت تلك الأميرة بالكرم وحسن استقبال الضيف والفراسة والدهاء.

تتقاطع قبيلة الخواتنة مع القبائل الأخرى في تلك الجغرافيا في نقاط عدة، لكنها ميزت نفسها في لهجة عربية خاصة لا تخفى جمالياتها، وقد توزعت أفخاذ تلك العشيرة ما بين العراق وسوريا في “تلعفر وبعاج والموصل وعامودا والخاتونية والهول”، قبل وجود الحدود وتشكل الدول بالمفهوم الحديث.

وقبول الآخر ومناصرة الضعيف عند “الخواتنة”، ليسا بجديد إذ سبق أن  احتمى بتلك الجغرافيا “الايزيديون” إبان مرحلة ما من الحكم العثماني، في القرن الثامن عشر، نتيجة حملة والي بغداد حسن باشا عليهم.

 وكانت أشجار بحيرة الخاتونية موئلاً لعدد متنوع من الطيور، وكانت مياهها مسكناً لأنواع مختلفة من الأسماك. أما في عهد حافظ الأسد وابنه، فقد حوَّل الجفاف والصرف الصحي والإهمال دلالات البحيرات والأنهار إلى غير ما كانت عليه.

يبدو الخاتوني اليوم مقيَّد اليدين في جغرافيته، هو الذي “تغلب يوماً على الشيطان”، وفقاً لمثل شائع في محافظة الحسكة في إشارة سردية إلى دهائه، ونباهته، وقدرته على التخلص من المخاطر، غير أن هذا الانتصار على الشيطان كان ممكناً، يوم كانت أدوات الصراع والأسلحة بين الطرفين متكافئة، أما اليوم فلا يملك القدرة على الصراع مع المجتمع الدولي.

 عددٌ من المهتمين بالتحليل السياسي من “الخواتنة” يعدّون إحياء وجود المخيم ضمن قراهم جزءاً من معاقبة قوات “قسد” والقبائل الأخرى لهم، بتهمة وقوفهم مع “داعش” حين كان في زهوه عامي 2015 و2016 قبل أن يُهزم هناك، وكما في كل الأماكن التي دخلها التنظيم أو فلوله والمتحمسون له، تثق أطراف الصراع بأنه سيتمّ ترحيل عناصره باتفاقات محلية بإشراف مخابراتي دولي ذات يوم، كما حدث أكثر من مرة، وقد يحرسها إبان الرحيل الخصوم أنفسهم، كما حدث مع “حزب الله” في صفقة الترحيل الشهيرة، من جرود لبنان إلى قلب الصحراء السورية بالقرب من الحدود العراقية في آب/ أغسطس 2017.

فيما يدفع الأهالي المدنيون بعد رحيل بقايا “داعش” الثمن، حيث يُوصَمون بـ”الدواعش والدعشنة”، هم الذين كانوا عاجزين عن مواجهة عنف التنظيم ووحشيته، لتغدو هذه التهمة، مع تهمة التطهير، مدخلاً لنهب بيوتهم وممتلكاتهم واضطهادهم والاعتداء عليهم وهضم حقوقهم، كما حدث في مناطق سورية عدة، بخاصة في حوض الفرات الشرقي.

من الواضح أنه ما دام ملف مخيم الهول قابلاً للاستثمار، باعتبار أن من يعيشون فيه يشكلون “بعبعاً” للآخرين، يمكن إطلاقه في لحظة ما من قمقمه؛ فإنه باق على حاله، وما من حلّ قريب لتفاصيله، إذ سيبقى الحارس حارساً، والمشرف مشرفاً، والضحية ضحية، إلى أن ينضج ظرف دولي آخر يسمح بزحزحة الثبات إلى حراك، وتثبيت الرمال بأشجار العدالة والمساواة.

درج

————————

سرديات الضحايا في مخيم الهول: “الهجيجُ” من الجيش السوري وميليشياته إلى “قسد”/ أحمد جاسم الحسين

معظم المقيمين في الهول مطلوبون، في سوق الإرهاب والإتجار بالخوف، الذي تحول إلى بضاعة رائجة، ليس عند الأنظمة المستبدة والميليشيات فحسب، بل أيضاً عند القوى الدولية التي تتاجر به، وتعرف كيف توظفه، وتبيعه، وتشتريه، وتصنعه.

في الحديث عن مخيم الهول وأحوال ساكنيه، تبرز سرديتان رئيسيتان هما: السردية الرسمية، وهي سردية “قسد” والتحالف الدولي التي لا تفارق سمات هذا النمط من السرديات. معلومات شعبوية، معقمة، تمنح صكوك الغفران، أو عبء الذنوب، لمن تريد، وتنزع عمن تشاء سمات الأخلاق لتمنحها أيضاً لمن تشاء.

والسردية الأخرى هي سردية المقيمين، أي سردية الضحايا، وهي سردية بروايات عدة، تبعاً لجذور السارد، والسبب الذي أودى به إلى هذا المكان. وما نركز عليه في هذا السياق هو سردية الفراتيين السوريين، وهم عرب، سنة، لديهم تقاطعاتهم وتشابكاتهم واعتراضاتهم حول السردية الأخرى، ولهم أبعاد جغرافية وتاريخية مع المكان، وساكنيه، وحاكميه.

يقول صالح الجادر، أول من التقيته، ممن كانوا يقطنون في مخيم الهول: إنه يشبه سجناً حكومياً، يتجاور فيه السجناء الجنائيون مع كبار المجرمين، وأصحاب السوابق مع الأحداث، الفرق وفقاً لصالح أن معظم الموجودين ضحايا وليسوا مجرمين، ويسهب صالح في ذكر أمثلة تدعم فرضيته. كنت أتأمل نشفان ريقه وحركة أصابعه، وهو يسرد حكايته، يريد أن يقنعني، بكل ما أوتي من قدرة على التأثير، بضرورة التعاطف معهم، ونقل مظلوميتهم إلى الإعلام أو القادة الكرد أو الرأي العام السوري والعالمي، ويعتقد أنني الشخص المناسب لإيصال رسالته.

تبلغ المسافة بين المنطقة التي كنت ضيفاً فيها، ومخيم الهول، 200 كيلومتر عبر طريق صحراوي يعرفه أهل المنطقة جيداً، وقد سلكتُه بالشاحنات حين كنت طفلاً لأساعد والدي في رعي الغنم، صيفاً، في منطقة تتحول إلى حقل من الأعشاب والزهور في وسط بادية الجزيرة الفراتية، اسمها “الروضة” إنْ كان الموسم ربيعاً والمطر وفيراً. وهناك طريق آخر هو عبر نهر الخابور لم يسلكه الناس إبان “الهجيج” كما يسمونه، وهي كلمة أدق بكثير من النزوح، وقد ورد في المعاجم: “هَجَّ الرَّجُلُ : فَرَّ هَارِباً مِنْ ظُلْمٍ إِلَى مَكَانٍ بَعِيدٍ”، وهنا نقول: هج الفراتيون إلى الجزيرة التي يحكمها الكرد، هرباً من ظلم متوقع، وخشية قصف الإيرانيين والنظام لمناطقهم، وهو ما حدث لاحقاً.

 يثق سكان هذه المنطقة بالبادية أكثر من ثقتهم بالمناطق المأهولة، لا يخافون ذئابها، أو مداها المفتوح، أو سرابها الذي يحسبونه ويعيشونه على أنه ماء، لهم تجارب طويلة معها، كلما ضغطت عليهم الحكومات السورية المتتالية أو طالبتهم بثأر أو ضرائب، أو أرادت القبض على شخص، يظن الأهالي أنه بريء، يلجأ إلى البادية، التي بقيت عصية على الحكومات، حتى إن الفرنسيين وفقاً لروايات المستشرقين قد سنّوا قوانين خاصة بالمنطقة، وخصصوا لها إدارة، وكانت الجريمة التي ترتكب في البادية تنطبق عليها أعراف العشائر، احتراماً للظروف المعيشية والمناخية فيها. تقدِّم البادية لأولئك السكان الثقة، وتُشْبع عندهم الحنين إلى الماضي، الذي تعج به حكايات الآباء، وتطمئنهم إلى أن الأبناء لن يتوهوا، إنْ اضطروا للمشي على خطاهم.

كان يمكن أن تكون أمي هناك في مخيم الهول، فقد هجّتْ مع أخي وأولاده، خشية قطعان النظام، وخيراً فعلوا حين هجّوا؛ لأن النظام قتل  أو اعتقل كل كائن حي وجده في مناطق الفرات، حين دخلها ليعفشها، كي لا يبقى شهود على فعلته، وكنوع من الانتقام، والحقد. إضافة إلى أنه تعبير جلي عن المستوى الأخلاقي الذي يتمثل في الرغبة بالانتصار على العزل المدنيين، وهي ثقافة موروثة في جيش النظام لم يكتف بها محلياً، بل سبق أن استخدمها في لبنان يوم “عفش” الحياة الاقتصادية والسياسية أكثر من 30 عاماً. وقد رأيت بعيني في منتصف التسعينات أن ضباطاً سوريين جلبوا المغاسل والمكتبات من البيوت التي احتلوها في لبنان، سكتنا وقتها كسوريين، ظناً منا أن هذه الجريمة تقع على آخرين. تألمنا للحدث، لكننا لم نقم بشيء يذكر، هل يجب أن نندم اليوم ونحن نرى أن أسلاك الكهرباء في بيوتنا والشبابيك والأبواب تم تعفيشها؟ ثلاثة من أولاد أخواتي، ممن توهموا أن النظام لن يقربهم قُتلوا، ووجد اثنان منهم مدفونين في جورة للصرف الصحي بعد عام ونيف، اعتقد أولئك الفتية أن من واجبهم أن يبقوا هناك كي يحموا بيوتهم وما فيها، لكنهم ماتوا، تقول أمهاتهم (أخواتي) وهن يبكين على صدر أخيهن لاستمداد القوة منه: ” ليتهم هجّوا معنا يا خيّي! ليتنا جميعاً هججنا إلى آخر الأرض كما فعلت حين هججت إلى هولندا”.

 لم أستطع أن ألتزم الصمت، بكيت مثلهن وأكثر، بعدما أزحت وجهي جانباً، ما أصعب أن تستشعر في بكاء أختك على صدرك الرجاء والأمل، ظناً منها أنك يمكن أن تعيد حقها، إلا أنك أضعف من ذلك بكثير، إنه أحياناً وهم النساء في الرجال، الذين هم ضحايا صورتهم القديمة، يوم كانت الرجولة مغامرة وسيوفاً وإقداماً.

تقول أمي بعد غياب تسع سنوات: لولا نداؤك على “فيسبوك” لـ”ربعك الأكراد” لكنا قُتِلْنا في أيام الهجيج.

غير أنها حين تسمع حكايات الهول تقول: الحمدلله أننا لم نذهب إلى الهول، ربما لم نكن لنخرج منه.

طمأنتُها: لا مشكلة يا أمي، هناك دائماً أصدقاء يمكن أن نستعين بهم، في رحلة الخلاص الفردي، ليت لديهم قدرات للمساهمة في حلحلة الشأن العام، الذي تتشابك به ألف جهة وجهة.

كان النداء عبر “فيسبوك”، هو الذي أنقذ والدتي، واستنفرتْ بموجبه الكثير من قيادات “قسد” وممثليها في أوروبا، وهناك على الأرض، وكذلك قوى محلية وقيادات من التحالف الدولي، أطلقتُه بعدما وصلتني رسالة استغاثة من أمي، وأنا في هولندا عبر “واتساب” من خلال رقم آخر سميته “الرجل الزاجل”. يدور ذلك الرجل على القرى، يسجل رسائل الناس، عبر “موبايله” بعد أن يعرفوا بأنفسهم ويضيف هو الرقم المطلوب إلى قائمة اتصالاته، ويُدْفَعَ له أجر مقابل ذلك، حيث يذهب بعد تسجيل الرسائل إلى منطقة تبعد عشرات الكيلومترات فيها شبكة اتصالات، ليحمِّل الرسائل كي تصل إلى الأقارب، تلك طريقة من طرائق التواصل. سمحت الحياة التقنية الجديدة، بالحمام الزاجل لكن مقابل أجر وفقاً للتغيرات الاقتصادية العالمية، لا يعدم البشر وسائل التواصل في كل عصر وفقاً لظروفه، وأذكر أن والدي بقي يستمع إلى برنامج عبر راديو دمشق، من خلال برنامج يومي عن فلسطين، يرسل فيه الأهل الذين هم دون عنوان إلى أقارب لهم دون عنوان سلامهم وتحياتهم لعلهم يسمعونهم.

كتبتُ على صفحتي عبر “فيسبوك” يوم 17 تشرين الثاني/ نوفمبر 2017، المنشور التالي:

“إلى أصدقائي الكرد السوريين، القادرين على إنقاذ أمي،

 الكرد الذين تشاركت معهم  الشعر والنثر والعمل والحلم والشراب والطعام نحو نصف قرن…

روح أمي تناشدكم، دمها يلومكم كل لحظة، يلاحقكم، لا عذر لقادر منكم…

أمي التي هربت خوفاً ورعباً من بطش النظام وميليشياته وداعش، مستجيرة بالمناطق التي يديرها الكرد، يمنعها العساكر هناك من الوصول إلى المشفى للتداوي…

ما تبقى من وجهها في الصورة وعروق يديها هو ما تبقى من أمي، يمنعها العساكر الذين يحكمون (مركدة) من الوصول إلى الحسكة للتداوي.

مركدة التي احتضنت أرواح الأرمن الهاربين من البطش والقتل… قد تضم ما تبقى من جسد والدتي.

تقول أمي في رسالة صوتية: أليس لك صديق كردي يستطيع أن يخرجنا من هنا؟

كان عندك (أصدقاء) أكراد كثيرين… وينهم؟ بمَ تريدون أن أجيب أمي؟

عنوانها؛ مفرق مركدة/ الرقاية/ طريق البقايا/12 كلم حارة الشعيبي،

 اسمها نورة أحمد السلامة، ليس لديها رقم هاتف

 ستجدون ما تبقى منها يعيش في خيمة،

 إما أنْ تذهبوا وتقتلوها

 أو لا تتركوها تموت مرضاً…”.

خلال ساعات فعلها أهلنا الكرد، وأنقذوها بالتعاون مع طائرات التحالف الدولي، أمي تخطو الآن نحو المئة بخطى ثابتة، وتسألني عن “ربعي الكرد”، الذين أنقذوها، وتدعو لهم من كل قلبها.

يشير صالح إلى أن نقوده هي التي أخرجته من كهف الهول، لا الوساطات التي قام بها شيخ العشيرة. وأثناء حديثه معي تدخل أحد الأقارب مقاطعاً: كلاهما! لولا الوساطة لما أدرِج اسمك في القوائم، أما الرشوة فسرَّعت بالإجراءات.

تقتضي الأعراف العشائرية أن يقوم العائد من السفر بتفقد أحوال “الفخذ” واحداً تلو الآخر، وكذلك لا بدّ أن يسأل عن أهم الأسماء في العشيرة أو القرية، وكان مطلوباً مني أن أقوم بهذا الدور، بعد غياب نحو عقد من الزمان في قريتي على نهر الفرات. كان أخي يجلس بجانبي، ويلقنني عن أحوال الزائرين وما آلت إليه أمورهم: هذا عليّ تعزيته بابنه وزوجته وكنّته الذين ذهبوا بقصف مجهول المصدر.  وهذا علي تهنئته بأنه تزوج ثلاث زوجات، وهذا علي سؤاله عن ابنه المسافر وهل يرسل له ما يكفي من النقود. وهذا أهنئه بخروج ابنه من المعتقل. كان مطلوباً مني كي أستمر كائناً طبيعياً ضمن من ألتقي بهم، أن أبدو عارفاً بكل تلك التفاصيل وتبعاتها، لم أتذمر منها، فقد شكلت لي مادة حكائية تعوض انقطاع الكهرباء والماء والبحث عن مشتركات مع أبناء العم، فالدم لا يكفي وحده ليكون مشتركاً، لا بدّ من وجود عناصر أخرى.

النتيجة التي وصلت إليها بعدما التقيت بأبناء العمومة، أن “فخذنا” الذي كنت أعتقد أنه بعيد من الصراع في سوريا، وأن أهلي مسالمون ولا علاقة لهم بالثورة والحرب والسياسة، بدا كأنه فخذ عشائري منكوب، فعدد القتلى والمفقودين والمعتقلين مثلاً من أقاربي تجاوز المئة. هذا عن حكاية فخذنا الذي يتوقف عند الجد السادس، أما لو أردت أن أوسِّع الدائرة نحو العشيرة، لوجدتُ أوجع من ذلك بكثير، وبدا لي أن الثورة والأحداث التي تلتها، قد زارت كل البيوت وتركتْ بصمتها فيها.

كنا نحسب أول الثورة السورية أن الحرب لعبة أو مزحة أو نزهة، سنعود سعيدين بعد القيام بها وقد تحققت أحلامنا بالنصر، مستندين على تاريخ طويل من الغزو والانتصارات التي كنا ندرسها في الكتب المدرسية من فتح الأندلس إلى حرب تشرين التحريرية، التي لا أعرف حتى اللحظة ما الذي حررتْه، وعلى من انتصرنا.

 لم يقبل أصحاب القرار من الطرفين (النظام والعسكريون من المعارضة) بالحلول الوسط، واعتقد كلٌّ منهما أنه يمسك بيقين النصر على الآخر، اليقين الذي كان خطأ كبيراً ربما، لا أعلم ذلك تماماً، هل هو خطأ أم صح؟

الحرب في سوريا بالنسبة إلى من هم خارجها حالة خبرية، وموقف إدانة يجب أن نقوم فيها، فنقول: إننا ضد القتل والاغتصاب والتهجير والاعتقال. بالنسبة إلى مشاهداتي، بعدما زرت الناس هناك في شرق الفرات السوري، فقد بدا أن الحرب بالنسبة إليهم نكبة وموت وتهجير وفقر وتكسير بنى اجتماعية. كلٌّ منهم اكتوى بنيرانها ودفع ثمناً كبيراً. هذا ابنه قُتل، او اعتقل هو، أو تدمر بيته، أو أصيب، أو فقد دوره، أو عمله، أو أنه ملاحق مخابراتياً، أو أصابه الفقر، أو تعرض لموقف ما في حياته، دعك من كونها حالة حاضرة في كل تفاصيلهم اليومية، الرصاص يسمعونه، والمنعكسات حاضرة في كل لقمة خبز يأكلونها فيمضغون حسراتهم وصمتهم.

حين جاء ابن عمي خليل مساء للسلام علي، قلت إن هذا الرجل كان يعمل “دكنجياً” ووفق معرفتي به فإنه كان يتحاشى أي علاقة ترجيحية مع أي طرف، مذ كان طفلاً يحبُّ أن يعيش في المناطق الرمادية، حتى إنه أبقى لون بيته بلون “البلوك” الذي عمَّره به، ورفض أن يدهنه ليبقي على لونه الرمادي، وكنتُ موقناً أنه لن يضع نفسه في وجه المدفع، واعتقدتُ أنه نأى بنفسه عن كل حدث في المرحلة الماضية، وإذ به يفاجئني بالقول: إنه كان في مخيم الهول! وحين رأى الاستغراب والدهشة في عيني، تابع: محطة الهول في حياتنا لم تكن خياراً، بل كانت محطة في طريق الخروج من جلجلة داعش.

كان لدى خليل اهتمام ماركسي، غير أن حسه التجاري غلب على دوافعه الماركسية؛ فاتبع طريق التجارة، بخاصة بعدما اتهمه حمود الشنتوت أمين الخلية الحزبية بأنه كان يلفّ بزر البطيخ المسلوق، الذي يبيعه في دكانه بمنشورات الحزب، ما يؤدي إلى تعفن البلاغات الحزبية، وكان خليل قد تبرع عبر سنوات بأخذ منشورات الحزب لتوزيعها على الرفاق المحتملين، والبحث عن رفاق جدد لينضموا إلى حزبنا. الرفيق الشنتوت قال: إنه أرسل ابنه ليحضر له “لفلوفة بزر مسلوق” وإذ به يفاجأ بأن ورق اللفلوفة هو بيانات الحزب، ولكي يؤكد صحة ما يروي فقد أحضر إلى الاجتماع الورقة ممتلئة بقشور البزر المسلوق.

الرفيق خليل ردّ عليه بالقول: إن الرفيق الشنتوت مبذر، وخرج عن أهداف الحزب، فالأصلُ أن يكتفي بأساسيات الحياة، وألا يتناول البزر، ورأى في هذا خيانة لصغار الكسبة والطبقة الكادحة وطالب بفصله من كوادر الحزب، وقال: لو كنت مكانه لتوقفت عن أكل البزر. وبعد أخذ ورد قال الرفيق خليل: إن تلك طريقة لنشر أفكار الحزب عبر البزر بدلاً من التسويق المباشر والحديث عن الحتميات التاريخية.

ذكَّرتُ ابن عمي بتلك الحادثة التي مر عليها نحو عقدين من الزمن، فضحك ضحكاً طويلاً كأنه لم يضحك منذ قرن، قلت له: دعك من هذا، واحكِ لي ما الذي أخذك إلى مخيم الهول؟ أم أنك استعدتَ إحساسك الماركسي وشعرتَ بأن عبدالله اوجلان قريب من الماركسية دفعك للذهاب إلى مخيم الهول؟ مع أنني أعرف أنك لا تحب الأهوال بما فيها أهوال يوم القيامة؟ أريد أن أسمع منك عن المسكوت عنه هناك؟

قال: كل من التقيتهم هناك لا يعرفون عبدالله أوجلان، لا يعرفون سوى المال والظرف، الذي يجب أن يستغلوه، وقد فاتهم الكثير في مراحل سابقة، هم مثل المخابرات الأسد حين يتم تعيينهم في المنطقة الشرقية والجزيرة السورية يأتون فترة من الزمن ليعبؤوا “الخرج”  ثم يمشون من هنا، وبدلاً من أن يسافروا إلى الخليج كما يفعل عدد من شباب منطقة الفرات ليؤمنوا أساسيات حياتهم، يسافرون سفراً داخلياً.

هناك، يا رفيق، وكنا نستعمل هذه المفردة للمزاح منذ زمان طويل، قل لي من أي طبقة اجتماعية أنت، وما منشؤك وإلى أي بلد تنتمي، وكم تملك من مال وإلى أي عائلة تنتمي، أقلْ لك ما الذي سيحدث معك في الهول، لست منجِّماً أو عاملاً بالتبصير، بل هي حسابات الواقع، رفاقنا القسديون من الكرد والعرب هناك في الهول خرجوا عن أهداف الحزب في وحدة الأمتين الكردية والعربية والنضال ضد المستعمر، وها هم يتعاونون اليوم مع الإمبريالية العالمية، ولا يكترثون بكل شعاراتنا القديمة ولا يكترثون بالبروليتاريا، آخ لو أن الرفيق خالد بكداش لا يزال حياً لفصلهم من الحزب، الذي لم يسجلوا فيه يوماً ولتخلى عن المكافأة المالية القادمة من الاتحاد السوفيتي.

قلتُ له، حدثني يا خليل عن وضع الأطفال هناك، فقال: كثيرٌ من الأطفال مفقود الأب أو أيتام، وقد ولد عدد منهم في المخيم، حيث الداخل مفقود والخارج مولود، وجدوا أنفسهم فجأة في غوانتانامو سوريا.

قلتُ: إذاً، كل ما في المخيم كفيل بتوليد حالات كراهية عند القاطنين فيه!

ردّ بانزعاج: أخي هذا كلام باحثين، كلام ناعم، بصراحة كل ما في مخيم الهول كفيل بأن يولِّد مجرمين إلا من رحم ربي، فالعمران والاكتظاظ السكاني وفقدان الخدمات والتعامل المهين والعنيف وفقدان الأمل، والبنية الديموغرافية والشعور بأنك متروك ومهمل وغير فاعل، وأنك مادة استثمار يصنع حالات سلبية جداً في النفس البشرية؛ كل ذلك له ارتدادات عنيفة، إضافة إلى انتشار فكرة أن هذا عربي وهذا كردي وحمولاتها القومية والسلطوية والثأرية أينما تحركت.

 أذكر أن هذا السؤال سبق أن سمعته عدداً من المرات في الحدود السورية- العراقية وعند عدد من الحواجز، ولم أعرف ما فائدة هذا السؤال أو تأثيراته، وإن كان الأمر يتعلق بالخدمة العسكرية، وما حيرني أنه لم يتبع السؤال أي إجراء أو سؤال آخر!

التجربة علمت ابن العم أن الأحزاب والأديان لم تفده، ما أفاده هو شيخ العشيرة فحسب، لأن شيخ العشيرة هو الذي أدرج اسمه في قائمة وافق عليها التحالف و”قسد” كنوع من إعادة الاعتبار للوجوه الاجتماعية في المنطقة كما قال خليل.

 تابع خليل مزهواً: هل تعلم يا ابن العم أنني كنت بطلاً في المسلسل المصري “بطلوع الروح” وأن أحد صناع العمل قد دعاني إلى إربيل ليستمع إلى تجربتي هناك وأعطوني ألف دولار وحجزوا لي فندقاً ثلاثة أيام مع الأكل والشرب وسيارة تأخذني وتعيدني إلى بيتي.

سألته: هل تابعت المسلسل حين عرضه؟

قال لي إنه ليس لديه كهرباء، والكهرباء التي يحصل عليها من الطاقة الشمسية تكفي للمراوح وتشغيل المصابيح وبراد صغير، وحسب.

لم أقل له: إنه كان مادة حكائية فحسب، لأن مسلسل “بطلوع الروح” قدم سردية السلطة عن مخيم الهول، وهي تتماهى مع موقف السلطة المصرية من كل ما هو ديني، وقد وجدت في حكايات الهول مادة درامية غنية، وقد يدخل في جوانب منه في إطار الصراع الدرامي بين الخليج ومصر من جهة، وتركيا من جهة أخرى، لأن من يعدهم المسلسل حماة للبشرية، هم بالمفهوم التركي إرهابيون في منطقة تضيع فيها دلالات الإرهاب ومفاهيم الاحتلال والوطنية والتدخل الأجنبي، وقد عبر انطونيو غاليلو عام 2013 في كتابه “أطفال الزمن: تقويم للتاريخ البشري” عن حالة تشتت الدلالة وضياعها في نص عنوانه (“يوم ضد الإرهاب”: مطلوبٌ لخطف البلدان). مطلوبٌ لخنق الأجور  وخفض الوظائف. مطلوبٌ لاغتصاب الأرض وتسميم المياه وسرقة الهواء. مطلوبٌ للإتجار بالخوف.

معظم المقيمين في الهول مطلوبون، في سوق الإرهاب والإتجار بالخوف، الذي تحول إلى بضاعة رائجة، ليس عند الأنظمة المستبدة والميليشيات فحسب، بل أيضاً عند القوى الدولية التي تتاجر به، وتعرف كيف توظفه، وتبيعه، وتشتريه، وتصنعه، كما سبق أن تحدَّث عن ذلك بشكل مفصل زيغمونت باومان في كتابه الشهير “الخوف السائل”.

درج

————————–

مأساة أطفال داعش.. التربية على القهر في مخيم الهول/ سليمان الطعان

ليست حديثة ظاهرة المقاتلين الذين يرتحلون إلى أماكن النزاعات أو الثورات، كما يخيل إلى من يقرأ تاريخ الحروب والنزاعات قراءة سريعة، وهي ليست خاصة بالجهادية الإسلامية، كما جرت العادة في العقود الماضية، فحقائق التاريخ تقول: إن ظاهرة الجهادي الذي يرتحل دفاعا عن دينه ومبدئه هي الأصغر عمرا، قياسا باليساريين والشيوعيين الذين رأينا أعدادا كبيرة منهم تنتقل في القرن الماضي من الثورة الإسبانية إلى كوبا والجزائر ولبنان…إلخ.

ظاهرة الجهادي الإسلامي التي بدأت في ثمانينيات القرن المنصرم هي بشكل ما الأخت غير الشقيقة لظاهرة الثائر الماركسي. إن أسامة بن لادن هو بمعنى ما استمرار لظاهرة تشي غيفارا، من زاوية أن الرجلين كانا يبحثان عن عالم أفضل، تسود فيه خلافة إسلامية لدى الأول، وتسيطر فيه ديكتاتورية البروليتاريا لدى الثاني. كان كلاهما حالما بعالمه المثالي، وإن اختلف طريقاهما أو تناقضا.

لكن الفرق بين ظاهرة الإسلامي المرتحل و”سلفه الماركسي” هو طريقة التعامل مع المقاتل بعد نهاية الحرب. في الستينيات من القرن المنصرم، وبعد انتصار حركات التحرر الوطني، منحت الدول الوليدة جنسياتها لمن أراد البقاء فيها، كما في الجزائر مثلا، أما من فضل العودة إلى بلاده فقد كان طريق العودة متاحا أمامه، ولاسيما أن أولئك المقاتلين السابقين لم يشكلوا خطرا على دولهم. الأمر نفسه ينطبق على حالة “الأفغان العرب” و”البوسنيين الشرق أوسطيين”، فقد خرج هؤلاء بموافقة ضمنية من أجهزة الاستخبارات وبتشجيع منها، وساعد على سهولة التعامل معهم بعد نهاية الحرب أنهم ذهبوا من دون أسرهم، ومعظمهم كان عازبا، وفي حالة المقاتلين من منطقة الشرق الأوسط الذين ارتحلوا إلى البوسنة، فقد حصل من تزوج منهم على الجنسية، وبعضهم استقر هناك، أو عاد بزوجته إلى بلاده.

على خلاف الحالات السابقة التي لم تؤد إلى حصول أزمات، لأنها جرت في ظل التوازن الذي فرضته ظروف الحرب الباردة فيما يتعلق بحركات التحرر الوطني، أو التي كانت برضا أميركي فيما يتصل بالأفغان العرب، جاء النموذج الداعشي انزياحا عن السياق المعهود، فمقاتلو داعش ينحدرون من خلفيات إسلامية موسومة بالإرهاب، قدموا في أثناء ذروة صعود بروبوغندا التنظيم، يحدوهم الأمل بإنشاء دولة الخلافة التي تبشر بها أدبيات التيارات الإسلامية. وما يختلف فيه المقاتل الداعشي عن سلفه الأفغاني العربي، أو الشيوعي الأميركي اللاتيني، أنه “هاجر” بهدف البقاء الدائم، بهدف الاستقرار النهائي في أرض الخلافة الموعودة، وأحضر معه عائلته، على خلاف أسلافه من المقاتلين المهاجرين الذين كانوا يرتحلون وحدهم، الأمر الذي سهل التعامل معهم كأفراد لاحقا.

لا يتعلق الأمر، الآن، بمقاتلي داعش الذين اختاروا طريقهم بأنفسهم، وهم أحرار فيما اختاروا، وعليهم أن يتحملوا تبعات النتائج المترتبة على اختيارهم. المشكلة التي خلفها تنظيم داعش مختلفة من حيث النوع والحجم عن مشكلات المقاتلين الذين يرتحلون إلى أماكن الحروب، إنها قضية ذات طابع إنساني، تمس حياة عشرات الآلاف من الأطفال والنساء الذين انتهى بهم المطاف في مخيمي الهول وروج في محافظة الحسكة، من دون أن يقترف أي منهم ذنبا، ولكنهم وجدوا أنفسهم يساقون إلى هذين المخيمين الرهيبين.  والحقيقة أن كلمة مخيم كلمة مخادعة في هذه الحالة، فالمخيمان لا يشبهان غيرهما من المخيمات، إنهما مركزا اعتقال ولكن دون إعلان رسمي عن ذلك.

لا شك أن كل طفل وامرأة في المخيم تربطه علاقة بأحد المقاتلين في داعش، ولكن هذا لا يسوغ احتجازهم في هذا المكان الصحراوي الرهيب، هذا إذا لم نذكر أن عددا كبيرا من ساكني المخيم هم من الأطفال الذي ذهبوا إلى تنظيم داعش بحكم التحاق آبائهم بالتنظيم، وأنهم عاشوا في مناطق سيطرة التنظيم مع آبائهم، وكثير منهم ولد في أثناء توسع التنظيم، فنصف المحتجزين في الهول تقل أعمارهم عن 12 عاما، في حين تبلغ النسبة 55 في المئة في مخيم روج. هل أضيف بأن نسبة ليست قليلة من الأطفال لا تعرف آباءها؟

وعلى الرغم من أن معظم المحتجزين في المخيمين، والذين يبلغ عددهم أكثر من 60 ألف شخص، هم من العراقيين والسوريين، فإن نسبة لا يستهان بها من المحتجزين في المخيمين من دول أخرى، إذ يوجد أكثر من11 ألف شخص يتوزعون على 59 دولة. ويبدو تعامل كثير من الدول، بما فيها الكثير من الدول الديمقراطية، مع أطفال مقاتلي التنظيم انتقاميا، بل إن الدول التي استعادت مواطنيها أو عددا منهم هي الدول التي لا تتشدق عادة بشعارات الدفاع عن حقوق الإنسان، كأوزبكستان مثلا. أما الدول الغربية التي ينتمي إليها معظم المحتجزين من غير السوريين والعراقيين، فقد اخترعت بعض الذرائع الواهية لمنع مواطنيها (الأطفال والنساء) من العودة إلى بلادهم، كالقول مثلا بعدم وجود تمثيل قنصلي لها في منطقة الحسكة، في حين أن بعض الدول اعتذرت عن عدم قبول الأطفال بسبب غياب وثائق رسمية لديهم، وهذا أمر يمكن أن يحل من خلال اختبارات الحمض النووي لو كانت تلك الدول جادة في استعادة مواطنيها.  ولم تخف دول أخرى موقفها من عدم رغبتها باستعادة مواطنيها نهائيا، كما في حالة شميمة بيجوم الفتاة البريطانية التي جردت من جنسيتها.

 نحن ببساطة أمام تجاهل تام لمأساة أطفال يحتجزون في مراكز اعتقال لأسباب تتعلق بهوية آبائهم. أما ما تقوم به قوات قسد فهو انتهاك صارخ لمواثيق الأمم المتحدة الخاصة بالطفولة، فإضافة إلى سياسة الاعتقال المعروفة، يفصل الأطفال الذكور عن أمهاتهم حين يبلغون سن العاشرة، حيث ينقلون إلى ما تدعوه تلك القوات بمراكز إعادة التأهيل داخل المخيمين. وعلينا أن نتخيل طفلا في العاشرة من عمره معزولا عن أهله ولا يسمح له بالاتصال بالعالم الخارجي. نحن أمام مراكز اعتقال تشبه مراكز الاعتقال التي تقوم بها الصين للإيغور، خلا أن العالم الغربي هو من يغض الطرف عن هذه الحقيقة لا لشيء إلا لأن آباء هؤلاء الأطفال هم من مقاتلي داعش أو المتعاطفين معها.

ما يجري في مخيمي الهول وروج هو إجراءات عقابية، تستهدف أطفالا أبرياء، ومن الواضح أن الدول المشاركة في التحالف الدولي من أجل القضاء على داعش، ومعها قوات سوريا الديمقراطية، تسوغ عمليات الاحتجاز بوصفها وسيلة لردع هؤلاء الأطفال عن اعتناق الأفكار المتشددة، لكن تلك الدول تكرر الخطأ نفسه، فالفقر والحرمان والإذلال هي البذور الحقيقية للتطرف والعنف والإرهاب.

نشأت داعش وتوسعت بسبب الظلم والقهر والإذلال، ولا ينبغي لأحد أن يسأل بعد اليوم أين ينمو التطرف والفكر المتشدد، ففي مخيمي الهول وروج درس نموذجي على ذلك. هل من متعظ؟

————————

=====================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى